سورة البقرة - تفسير تفسير النسفي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (البقرة)


        


{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله} معنى الهمزة التي في {كيف} مثله في قولك: أتكفرون بالله ومعكم وما يصرف عن الكفر ويدعو إلى الإيمان وهو الإنكار والتعجب، ونظيره قولك: أتطير بغير جناح وكيف تطير بغير جناح؟ والواو في {وَكُنتُمْ أمواتا} نطفاً في أصلاب آبائكم للحال و(قد) مضمرة. والأموات جمع ميت كالأقوال جمع قيل، ويقال لعادم الحياة أصلاً ميت أيضاً كقوله تعالى: {بلدة مَّيْتاً} [الفرقان: 49] {فأحياكم} في الأرحام {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} عند انقضاء آجالكم {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} للبعث {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} تصيرون إلى الجزاء، أو ثم يحييكم في قبوركم ثم إليه ترجعون للنشور. وإنما كان العطف الأول بالفاء والبواقي بثم لأن الإحياء الأول قد تعقب الموت بلا تراخٍ، وأما الموت فقد تراخى عن الحياة والحياة الثانية كذلك تتراخى عن الموت إن أريد النشور، وإن أريد إحياء القبر فمنه يكتسب العلم بتراخيه، والرجوع إلى الجزاء أيضاً متراخٍ عن النشور. وإنما أنكر اجتماع الكفر مع القصة التي ذكرها لأنها مشتملة على آيات بينات تصرفهم على الكفر، ولأنها تشتمل على نعمٍ جسام حقها أن تشكر ولا تكفر.
{هُوَ الذي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأرض} أي لأجلكم ولانتفاعكم به في دنياكم ودينكم. أما الأول فظاهر، وأما الثاني فالنظر فيه وما فيه من العجائب الدالة على صانع قادر حكيم عليم، وما فيه من التذكير بالآخرة لأن ملاذها تذكر ثوابها ومكارهها تذكر عقابها. وقد استدل الكرخي وأبو بكر الرازي والمعتزلة بقوله {خلق لكم} على أن الأشياء التي يصح أن ينتفع بها خلقت مباحة في الأصل. {جَمِيعاً} نصب على الحال من {ما} {ثُمَّ استوى إِلَى السماء} الاستواء: الاعتدال والاستقامة. يقال: استوى العود أي قام واعتدل، ثم قيل: استوى إليه كالسهم المرسل أي قصده قصداً مستوياً من غير أن يلوي على شيء ومنه قوله تعالى: {ثُمَّ استوى إِلَى السماء} [فصلت: 11]، أي أقبل وعمد إلى خلق السموات بعد ما خلق ما في الأرض من غير أن يريد فيما بين ذلك خلق شيء آخر. والمراد بالسماء جهات العلو كأنه قيل: ثم استوى إلى فوق. والضمير في {فسوّاهنّ} مبهم يفسره {سَبْعَ سماوات} كقولهم (ربه رجلاً). وقيل: الضمير راجع إلى السماء ولفظها واحد ومعناها الجمع لأنها في معنى الجنس. ومعنى تسويتهن تعديل خلقهن وتقويمه وإخلاؤه من العوج والفطور، أو إتمام خلقهن. و{ثم} هنا لبيان فضل خلق السموات على خلق الأرض، ولا يناقض هذا قوله {والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دحاها} [النازعات: 30] لأن جرم الأرض تقدم خلقه خلق السماء وأما دحوها فمتأخر. وعن الحسن: خلق الله الأرض في موضع بيت المقدس كهيئة الفهر عليها دخان ملتزق بها، ثم أصعد الدخان وخلق منها السموات وأمسك الفهر في موضعها وبسط منها الأرض فذلك قوله تعالى:
{كَانَتَا رَتْقاً} [الأنبياء: 30]، وهو الالتزاق {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فمن ثم خلقهن خلقاً مستوياً محكماً من غير تفاوت من خلق ما في الأرض على حسب حاجات أهلها ومنافعهم. وهو وأخواته مدني غير ورش، {وَهُوَ} هو وأبو عمرو وعلي، جعلوا الواو كأنها في نفس الكلمة فصار بمنزلة عضد وهم يقولون في عضد عضد بالسكون.
ولما خلق الله تعالى الأرض أسكن فيها الجن وأسكن في السماء الملائكة فأفسدت الجن في الأرض فبعث إليهم طائفة من الملائكة فطردتهم إلى جزائر البحار ورؤوس الجبال وأقاموا مكانهم فأمر نبيه عليه السلام أن يذكر قصتهم فقال:
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة} (إذ) نصب بإضمار (اذكر). والملائكة جمع ملأك كالشمائل جمع شمأل وإلحاق التاء لتأنيث الجمع. {إِنّي جَاعِلٌ} أي مصير من جعل الذي له مفعولان وهما {فِي الأرض خَلِيفَةً} وهو من يخلف غيره (فعيلة) بمعنى (فاعلة) وزيدت الهاء للمبالغة والمعنى: خليفة منكم لأنهم كانوا سكان الأرض فخلفهم فيها آدم وذريته. ولم يقل خلائف أو خلفاء لأنه أريد بالخليفة آدم. واستغنى بذكره عن ذكر بنيه كما تستغني بذكر أبي القبيلة في قولك (مضر وهاشم)، أو أريد من يخلفكم أوخلقاً يخلفكم فوحد لذلك، أو خليفة مني لأن آدم كان خليفة الله في أرضه وكذلك كل نبي، قال الله تعالى: {يا دَاوُودُ إِنَّا جعلناك خَلِيفَةً فِي الأرض} [ص: 26]، وإنما أخبرهم بذلك ليسألوا ذلك السؤال ويجابوا بما أجيبوا به فيعرفوا حكمته في استخلافهم قبل كونهم، أو ليعلِّم عباده المشاورة في أمورهم قبل أن يقدموا عليها وإن كان هو بعلمه وحكمته البالغة غنياً عن المشاورة. {قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا} تعجب من أن يستخلف مكان أهل الطاعة أهل المعصية وهو الحكيم الذي لا يجهل، وإنما عرفوا ذلك بإخبار من الله تعالى، أو من جهة اللوح أو قاسوا أحد الثقلين على الآخر. {وَيَسْفِكُ الدماء} أي يصب. والواو في {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ} للحال كما تقول: أتحسن إلى فلان وأنا أحق منه بالإحسان؟ {بِحَمْدِكَ} في موضع الحال أي نسبح حامدين لك ومتلبسين بحمدك كقوله تعالى: {وَقَدْ دَّخَلُواْ بالكفر} [المائدة: 61]، أي دخلوا كافرين. {وَنُقَدِّسُ لَكَ} ونطهر أنفسنا لك. وقيل: التسبيح والتقديس تبعيد الله من السوء من سبح في الأرض وقدس فيها إذا ذهب فيها وأبعد. {قَالَ إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} أي أعلم من الحكم في ذلك ما هو خفي عليكم يعني يكون فيهم الأنبياء والأولياء والعلماء. و{ما} بمعنى (الذي) وهو مفعول أعلم والعائد محذوف أي ما لا تعلمونه. {إنى} حجازي وأبو عمرو.
{وَعَلَّمَ ءَادَمَ} هو اسم أعجمي وأقرب أمره أن يكون على فاعل كآزو واشتقاقهم آدم من أديم الأرض أو من الأدمة كاشتقاقهم يعقوب من العقب وإدريس من الدرس وإبليس من الإبلاس.
{الأسماء كُلَّهَا} أي أسماء المسميات فحذف المضاف إليه لكونه معلوماً مدلولاً عليه بذكر الأسماء إذ الإسم يدل على المسمى وعوض منه اللام كقوله تعالى: {واشتعل الرأس شَيْباً} [مريم: 4]، ولا يصح أن يقدر وعلم آدم مسميات الأسماء على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، لأن التعليم تعلق بالأسماء لا بالمسميات لقوله تعالى: {أنبئوني بأسماء هؤلاء}- و- {أنبئهم بأسمائهم}، ولم يقل (أنبئوني بهؤلاء وأنبئهم بهم). ومعنى تعليمه أسماء المسميات أنه تعالى أراه الأجناس التي خلقها وعلمه أن هذا اسمه فرس وهذا اسمه بعير وهذا اسمه كذا وهذا اسمه كذا. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: علمه اسم كل شيء حتى القصعة والمغرفة. {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الملائكة} أي عرض المسميات، وإنما ذكر لأن في المسميات العقلاء فغلبهم. وإنما استنبأهم وقد علم عجزهم عن الإنباء على سبيل التبكيت {فَقَالَ أَنبِئُونِي} أخبروني {بِأَسْمَاءِ هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صادقين} في زعمكم أني أستخلف في الأرض مفسدين سفاكين للدماء، وفيه رد عليهم وبيان أن فيمن يستخلفه من الفوائد العلمية التي هي أصول الفوائد كلها ما يستأهلون لأجله أن يستخلفوا. {قَالُواْ سبحانك} تنزيهاً لك أن يخفى عليك شيء أو عن الاعتراض عليك في تدبيرك. وأفادتنا الآية أن علم الأسماء فوق التخلي للعبادة فكيف بعلم الشريعة؟! وانتصابه على المصدر تقديره سبحت الله تسبيحاً {لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا} وليس فيه علم الأسماء، و{ما} بمعنى (الذي)، والعلم بمعنى المعلوم أي لا معلوم لنا، إلا الذي علمتنا. {إِنَّكَ أَنتَ العليم} غير المعلم {الحكيم} فيما قضيت وقدرت. والكاف اسم (إن) و{أنت} مبتدأ وما بعده خبره والجملة خبر (إن)، أو {أنت} فصل والخبر {العليم}. و{الحكيم} خبر ثانٍ.


{قَالَ يَاءَادَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِم} سمى كل شيء باسمه. {قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِي أَعْلَمُ غَيْبَ السموات والأرض} أي أعلم ما غاب فيهما عنكم مما كان ومما يكون. {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ} تظهرون. {وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} تسرون.
{وَإِذَا قُلْنَا للملائكة اسجدوا لآِدَمَ} أي اخضعوا له وأقروا بالفضل له. عن أبي بن كعب، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: كان ذلك انحناء ولم يكن خروراً على الذقن. والجمهور على أن المأمور به وضع الوجه على الأرض. وكان السجود تحية لآدم عليه السلام في الصحيح إذ لو كان لله تعالى لما امتنع عنه إبليس. وكان سجود التحية جائزاً فيما مضى ثم نسخ بقوله عليه السلام لسلمان حين أراد أن يسجد له: «لا ينبغي لمخلوق أن يسجد لأحد إلا لله تعالى».
{فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ} الاستثناء متصل لأنه كان من الملائكة كذا قاله علي وابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم، ولأن الأصل أن الاستثناء يكون من جنس المستثنى منه، ولهذا قال: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12]، وقوله: {كَانَ مِنَ الجن} [الكهف: 50] معناه صار من الجن كقوله {فَكَانَ مِنَ المغرقين} [هود: 43]. وقيل: الاستثناء منقطع لأنه لم يكن من الملائكة بل كان من الجن بالنص وهو قول الحسن وقتادة، ولأنه خلق من نار والملائكة خلقوا من النور، ولأنه أبى وعصى واستكبر والملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ولا يستكبرون عن عبادته. ولأنه قال: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي} [الكهف: 50]، ولا نسل للملائكة. وعن الجاحظ أن الجن والملائكة جنس واحد، فمن طهر منهم فهو ملك، ومن خبث فهو شيطان، ومن كان بين بين فهو جن. {أبى} امتنع مما أمر به {واستكبر} تكبر عنه. {وَكَانَ مِنَ الكافرين} وصار من الكافرين بإبائه واستكباره ورده الأمر لا بترك العمل بالأمر، لأن ترك السجود لا يخرج من الإيمان ولا يكون كفراً عند أهل السنة خلافاً للمعتزلة والخوارج، أو كان من الكافرين في علم الله أي وكان في علم الله أنه يكفر بعد إيمانه لأنه كان كافراً أبداً في علم الله وهي مسألة الموافاة.
{وَقُلْنَا ياءادم اسكن} أمر من سكن الدار يسكنها سكنى إذا أقام فيها ويقال سكن المتحرك سكوناً {أَنتَ} تأكيد للمستكن في {اسكن} ليصح عطف {وَزَوْجُكَ} عليه {الجنة} هي جنة الخلد التي وعدت للمتقين للنقل المشهور واللام للتعريف. وقالت المعتزلة: كانت بستاناً باليمن لأن الجنة لا تكليف فيها ولا خروج عنها. قلنا: إنما لا يخرج منها من دخلها جزاء. وقد دخل النبي عليه السلام ليلة المعراج ثم خرج منها، وأهل الجنة يكلفون المعرفة والتوحيد.
{وَكُلاَ مِنْهَا} من ثمارها فحذف المضاف. {رَغَدًا} وصف للمصدر أي أكلاً رغداً واسعاً {حَيْثُ شِئْتُمَا} شئتما وبابه بغير همز: أبو عمرو. وحيث للمكان المبهم أي أيَّ مكان من الجنة شئتما {وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة} أي الحنطة. ولذا قيل: كيف لا يعصي الإنسان وقوته من شجرة العصيان، أو الكرمة لأنها أصل كل فتنة، أو التينة. {فَتَكُونَا} جزم عطف على {تقربا} أو نصب جواب للنهي. {مِنَ الظالمين} من الذين ظلموا أنفسهم أو من الضارين أنفسهم. {فَأَزَلَّهُمَا الشيطان عَنْهَا} أي عن الشجرة، أي فحملهما الشيطان على الزلة بسببها. وتحقيقه فأصدر الشيطان زلتهما عنها أو فأزلهما عن الجنة بمعنى أذهبهما عنها وأبعدهما. {فأزالهما} حمزة. وزلة آدم بالخطأ في التأويل إما بحمل النهي على التنزيه دون التحريم، أو بحمل اللام على تعريف العهد وكأن الله تعالى أراد الجنس والأول الوجه. وهذا دليل على أنه يجوز إطلاق اسم الزلة على الأنبياء عليهم السلام كما قال مشايخ بخارى. فإنه اسم الفعل يقع على خلاف الأمر من غير قصد إلى الخلاف كزلة الماشي في الطين. وقال مشايخ سمرقند: لا يطلق اسم الزلة على أفعالهم كما لا تطلق المعصية. وإنما يقال فعلوا الفاضل وتركوا الأفضل فعوتبوا عليه. {فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} من النعيم والكرامة، أو من الجنة إن كان الضمير للشجرة في {عنها}. وقد توصل إلى إزلالهما بعدما قيل له {فاخرج منها فإنك رجيم} لأنه منع عن دخولها على جهة التكرمة كدخول الملائكة لا عن دخولها على جهة الوسوسة ابتلاء لآدم وحواء. وروي أنه أراد الدخول فمنعته الخزنة فدخل في فم الحية حتى دخلت به. وقيل: قام عند الباب فنادى. {وَقُلْنَا اهبطوا} الهبوط النزول إلى الأرض. والخطاب لآدم وحواء وإبليس وقيل والحية والصحيح لآدم وحواء. والمراد هما وذريتهما لأنهما لما كانا أصل الإنس ومتشعبهم جعلا كأنهما الإنس كلهم ويدل عليه قوله تعالى: {قَالَ اهبطا مِنْهَا جَمِيعاً} [طه: 123] {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} المراد به ما عليه الناس من التباغي والتعادي وتضليل بعضهم لبعض. والجملة في موضع الحال من الواو في {اهبطوا} أي اهبطوا متعادين. {وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ} موضع استقرار أو استقرار. {ومتاع} وتمتع بالعيش. {إلى حِينٍ} إلى يوم القيامة أو إلى الموت. قال إبراهيم بن أدهم: أورثتنا تلك الأكلة حزناً طويلاً.
{فَتَلَقَّى ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ} أي استقبلها بالأخذ والقبول والعمل بها. وبنصب {آدم} ورفع {كلمات}: مكي على أنها استقبلته بأن بلغته واتصلت به وهنا قوله تعالى: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين} [الأعراف: 23]. وفيه موعظة لذريتهما حيث عرفوا كيفية السبيل إلى التنصل من الذنوب.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن أحب الكلام إلى الله تعالى ما قاله أبونا آدم حين اقترف الخطيئة: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: يا رب ألم تخلقني بيدك؟ قال: بلى. قال: يا رب ألم تنفخ فيَّ من روحك؟ ألم تسبق رحمتك غضبك؟ ألم تسكنى جنتك؟ وهو تعالى يقول: بلى بلى. قال: فلم أخرجتني من الجنة؟ قال: بشؤم معصيتك. قال: فلو تبت أراجعي أنت إليها؟ قال: نعم {فَتَابَ عَلَيْهِ} فرجع عليه بالرحمة والقبول. واكتفى بذكر توبة آدم لأن حواء كانت تبعاً له، وقد طوى ذكر النساء في أكثر القرآن والسنة لذلك. {إِنَّهُ هُوَ التواب} الكثير القبول للتوبة. {الرحيم} على عباده. {قُلْنَا اهبطوا مِنْهَا جَمِيعًا} حال أي مجتمعين. وكرر الأمر بالهبوط للتأكيد، أو لأن الهبوط الأول من الجنة إلى السماء والثاني من السماء إلى الأرض، أو لما نيط به من زيادة قوله. {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى} أي رسول أبعثه إليكم، أو كتاب أنزله عليكم بدليل قوله تعالى: {والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بآياتنا} في مقابلة قوله {فَمَن تَبِعَ هُدَايَ} أي بالقبول والإيمان به. {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} في المستقبل {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} على ما خلفوا. والشرط الثاني مع جوابه جواب الشرط الأول كقولك (إن جئتني فإن قدرت أحسنت إليك). {فلا خوفَ} بالفتح في كل القرآن: يعقوب.


{والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بآياتنا أولئك} مبتدأ والخبر {أصحاب النار} أي أهلها ومستحقوها. والجملة في موضع الرفع خبر المبتدأ أعني والذين {هُمْ فِيهَا خالدون} {يا بَنِي إسراءيل} هو يعقوب عليه السلام وهو لقب له ومعناه في لسانهم صفوة الله أو عبد الله. فإسرا هو العبد أو الصفوة، وإيل هو الله بالعبرية، وهو غير منصرف لوجود العلمية والعجمة. {اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} ذكرهم النعمة أن لا يخلوا بشكرها ويطيعوا مانحها. وأراد بها ما أنعم به على آبائهم مما عدد عليهم من الإنجاء من فرعون وعذابه ومن الغرق ومن العفو عن اتخاذ العجل والتوبة عليهم، وما أنعم به عليهم من إدراك زمن محمد صلى الله عليه وسلم المبشر به في التوراة والإنجيل. {وَأَوْفُوا} أدوا وافياً تاماً، يقال وفيت له بالعهد فأنا وافٍ به وأوفيت له بالعهد فأنا موف به، والاختيار أوفيت، وعليه نزل التنزيل. {بِعَهْدِي} بما عاهدتموني عليه من الإيمان بي والطاعة لي، أو من الإيمان بنبي الرحمة والكتاب المعجز. {أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} بما عاهدتكم عليه من حسن الثواب على حسناتكم. والعهد يضاف إلى المعاهِد والمعاهَد جميعاً. وعن قتادة: هما لئن أقمتم {ولأكفرن} وقال أهل الإشارة: أوفوا في دار محنتي، على بساط خدمتي، بحفظ حرمتي، أوف في دار نعمتي، على بساط كرامتي، بسرور رؤيتي. {وإياى فارهبون} فلا تنقضوا عهدي وهو من قولك (زيدا رهبته) وهو أوكد في إفادة الاختصاص من {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 4] {وإيّايَ} منصوب بفعل مضمر دل عليه ما بعده وتقديره فارهبوا إياي فارهبون، وحذف الأول لأن الثاني يدل عليه. وإنما لم ينتصب بقوله {فارهبون} لأنه أخذ مفعوله وهو الياء المحذوفة وكسرة النون دليل الياء كما لا يجوز نصب زيد في (زيدا فاضربه) ب (اضرب) الذي هو ظاهر.
{وَءَامِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ} يعني القرآن {مُصَدِّقاً} حال مؤكدة من الهاء المحذوفة كأنه قيل أنزلته مصدقاً {لِّمَا مَعَكُمْ} من التوراة يعني في العبادة والتوحيد والنبوة وأمر محمد عليه السلام {وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} أي أول من كفر به أو أول حزب أو فوج كافر به، أو ولا يكن كل واحد منكم أول كافر به. وهذا تعريض بأنه كان يجب أن يكونوا أول من يؤمن به لمعرفتهم به وبصفته، والضمير في به يعود إلى القرآن. {وَلاَ تَشْتَرُواْ} ولا تستبدلوا. {بآياتي} بتغييرها وتحريفها. {ثَمَناً قَلِيلاً} قال الحسن: هو الدنيا بحذافيرها. وقيل: هو الرياسة التي كانت لهم في قومهم خافوا عليها الفوات لو اتبعوا رسول الله. {وإياى فاتقون} فخافوني {فارهبوني} {فاتقوني} بالياء في الحالين وكذلك كل ياء محذوفة في الخط: يعقوب.
{وَلاَ تَلْبِسُواْ الحق بالباطل} لبس الحق بالباطل خلطه. والباء، إن كانت صلة مثلها في قولك (لبست الشيء بالشيء) خلطته به، كان المعنى ولا تكتبوا في التوراة ما ليس منها فيختلط الحق المنزل بالباطل الذي كتبتم حتى لا يميز بين حقها وباطلكم. وإن كانت باء الاستعانة كالتي في قولك (كتبت بالقلم)، كان المعنى ولا تجعلوا الحق ملتبساً مشتبهاً بباطلكم الذي تكتبونه. {وَتَكْتُمُواْ الحق} هو مجزوم داخل تحت حكم النهي بمعنى ولا تكتموا، أو منصوب بإضمار (أن)، والواو بمعنى الجمع، أي ولا تجمعوا بين لبس الحق بالباطل وكتمان الحق كقولك (لا تأكل السمك وتشرب اللبن). وهما أمران متميزان، لأن لبس الحق بالباطل ما ذكرنا من كتبهم في التوراة ما ليس منها، وكتمانهم الحق أن يقولوا لا نجد في التوراة صفة محمد أو حكم كذا {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} في حال علمكم أنكم لابسون وكاتمون وهو أقبح لهم لأن الجهل بالقبيح ربما عذر مرتكبه. {وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكواة} أي صلاة المسلمين وزكاتهم. {واركعوا مَعَ الراكعين} منهم لأن اليهود لا ركوع في صلاتهم أي أسلموا واعملوا عمل أهل الإسلام. وجاز أن يراد بالركوع الصلاة كما يعبر عنها بالسجود، وأن يكون أمراً بالصلاة مع المصلين يعني في الجماعة، أي صلوها مع المصلين لا منفردين.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8